جولة سحرية داخل العقل البشري تشرح لنا النظامان المحركان لــ تفكيرنا انه عرض للإمكانيات غير العادية للتفكير السريع، وكذلك ما ينطوي عليه من أخطاء و تحيزات كما يميط اللثام عن التأثير الهائل للانطباعات الحدسية على أفكارنا وسلوكياتنا يوضح متى يمكن أن نثق في انطباعاتنا الحدسية، ومتى لا يمكن ذلك وكيف يمكننا الاستفادة من مزايا التفكير البطيء .. كما يقدم أيضًا تحليلًا عمليًّا وتثقيفيًّا لطريقة اتخاذ القرارات في حياتنا العملية والشخصية على حد سواء، ويوضح كذلك كيف يمكن استخدام أساليب مختلفة للوقاية من زلات العقل التي كثيرًا ما توقعنا في المشكلات ، إن هذا الكتاب سيغير نظرتك إلى التفكير تغييرًا جذريًّا
المؤلف : دانيال كانمان ، عالِم النفس – عالِم الاقتصاد ( حاصل ع نوبل فـ الاقتصاد ) تاريخ النشر : 2011 متوسط عدد صفحات الكتاب : 500 صفحة
– ملخص الكتاب ..
>> بديهة خبراء أم خبرة بديهية .. ؟
– حين تُسأل عما يجول بخاطرك ، قد تجيب دون أن تفكر؛لأنك تعتقد أنك على علم بالأفكار التي تدور في ذهنك ، والتي تتكون في الغالب من فكرة إدراكية تقود بأسلوب منظم إلى فكرة أخرى
– إلا أن هذا ليس هو الأسلوب الوحيد أو المعتاد الذي يعمل به العقل، فمعظم الأفكار والانطباعات تنشأ خلال تجربتك الإدراكية دون أن تدري كيف وصلت إلى هذا المكان
– وبالتالي ، فلن تستطيع أن تحدد كيف أتاك الاعتقاد بأن هناك مصباحًا على المكتب الذي تجلس عليه ، أو كيف استشعرت رنة الغضب في صوت زوجتك حين كنت تتحدث معها عبر الهاتف ، أو كيف استطعت تجنب التعرض لخطر ما على الطريق قبل أن تدرك وجوده
– والسبب في ذلك أن العقل يعمل في صمت كي ينتج انطباعاتك وأفكارك البديهية والعديد من قراراتك
– سمعنا جميعًا تلك القصص التي تتحدث عن البديهة التي يتمتع بها الخبراء، كـ قصة محترف الشطرنج الذي يمر على أشخاص يمارسون تلك اللعبة ويتنبأ بالعديد من تحركاتهم التالية أو الطبيب الذي ينظر إلى المريض نظرة واحدة فــ يستطيع من خلالها تشخيص حالته بدقة تبهرنا بديهة الخبراء وكأنها ضرب من ضروب السحر، غير أنها ليست كذلك
– ففي الواقع ، لدينا جميعًاخبرة بديهية تجعلنا نُظهر العديد من السلوكيات الاستثنائية كل يوم ، ومعظمنا يستطيع بسهولة استشعار رنة الغضب في صوت الطرف الآخر عبر الهاتف بدايةً من أول كلمة ينطق بها، كما نستطيع ملاحظة أننا كنا موضوع محادثة ما بمجرد أن ندخل الغرفة التي شهدت تلك المحادثة ، ونستطيع أيضًا الاستجابة بسرعة إلى الإشارات البسيطة التي تؤكد أن سائق السيارة التي تمر بجوارنا يشكل خطرًاعلينا
– إن قدراتنا البديهية التي نمارسها كل يوم ليست أقلإثارةً للإعجاب من قدرات محترف الشطرنج أو الطبيب الخبير، ولكنها أكثر شيوعًا فحسب
– لا تتضمن التركيبة النفسية للبديهة السليمة أي سحر.ولعل أفضل وأقصر وصف لها هو ذاك الذي قدمه ”هيربرت سيمون“حين أجرى دراسات على محترفي الشطرنج وثبت له أن آلاف الساعات التي تدربوا خلالها جعلتهم ينظرون إلى لوحة الشطرنج بأسلوب مختلف
– نستطيع ملاحظة تلهف”سيمون“ إلى تفسير خرافة بديهة الخبير حين قال: ”يتلقى الخبير إشارة خلال موقف ما ؛ تلك الإشارة هي التي تمكنه من الوصول إلى المعلومات المخزنة في ذاكرته، والتي تمكنه بدورها من التوصل إلى الحل
– وبذلك، البديهة ماهي إلا حالة إدراك ، “ لن نُفاجأ إذن حين ينظر طفل عمره عامان إلى كلب ويتعرف عليه لأننا تعودنا على معجزة الأطفال الذين يتعلمون التعرف على الأشياء وأسمائها – يقصد هنا من التعريف السابق أن المعجزات المتعلقة بـ بديهة الخبراء ذات طبيعة واحدة ، إذ تنشأ الأفكار البديهية السليمة حين يتعلم الخبراء التعرف على العناصر المألوفة في موقف جديد والتصرف بناءً على ذلك
– بالتالي، فإن الفكرة البديهية السليمة تطرأ على عقولهم بنفس السرعة التي يتعرف بها الطفل على أي شيء وينطق اسمه
——————————
>> للتفكير نمطان
– لعدة عقود ، أبدى علماء النفس اهتمامًا شديدًا بـ نمطي تفكير وأطلقوا عليهما أسماء عدة
– سنتحدث الآن عن هذين النمطين مطلقين عليهما اسمي ”النمط الأول“ و ”النمط الثاني“
– يعمل النمط الأول سريعًا وتلقائيًا، بمجهود بسيط أو دون مجهود يذكر أو إحساس بالرغبة في السيطرة عليه
– أما النمط الثاني، فيركز على الأنشطة العقلية المجهدة التي تتطلبه كــ العمليات الحسابية المعقدة ، وغالبًا ما ترتبط العمليات الخاصة بهذا النمط بالخبرات الذاتية للإرادة والاختيار والتركيز
– عندما نفكر في أنفسنا نفكر وفقًا للنمط الثاني ، فـ الإدراك يستمع إلى النفس بـ معتقداتها ويتوصل إلى اختيارات ، ويقرر ما يجب أن يفكر فيه وما يجب أن يفعله
– ورغم أن هذا النمط يعتقد أنه مرتبط بالفعل ، فـ النمط التلقائي الأول هو محور هذا الفعل، إذ يوصف بأنه مصدر الانطباعات والمشاعر التي تعتبر المصادر الأساسية للمعتقدات الصريحة والخيارات المتعمدة ، المتعددة التي تنشأ من خلال النمط الثاني
– تُنشئ العمليات التلقائية للنمط الأول أنماطًا معقدة من الأفكار بصورة مفاجئة، ووحدة النمط الثاني الأكثر بطئًا هو القادر على تكوين الأفكار بخطوات مرتبة
– وهنا كـ بعض الأحوال التي يتغلب فيها النمط الثاني على النمط الأول متجاوزًا حوافزه المطلقة وكل ما يرتبط به
– بالتالي ، يجب علينا أن ننظر إلى هذين النمطين على أنهما عاملان مختلفان بـ قدراتهما الفردية، وأوجه قصورهما ، ووظائفهما، مع ترتيبها جميعًا ترتيبًا صارمًا وفقًا لمدى تعقيدها
>> النمط الثاني بطئ
من الطبيعي أن تكون مسألة المشي والتفكير في آن واحد سهلة وممتعة، ولكن يبدو أن هذين النشاطين من الأنشطة التي تتنافس على الموارد المحدودة للنمط الثاني
– ويمكنك التأكد من هذا الادعاء من خلال تجربة بسيطة
– فحين تتنزه سيرًا على الأقدام مع صديقك وتطلب منه إجراء عملية حسابية في الحال، فغالبًا ستجد أنه توقف عن السير لإجرائها
– معنى ذلك أننا نستطيع التفكير حين نتنزه سيرًا على الأقدام ولكننا لا نستطيع الانخراط في أنشطة عقلية تشكل عبئًا كبيرًا على الذاكرة قصيرة المدى
– فإن كان لا بد من حل مسألة معقدة في وقت قصير، سـ نفضل التوقف عن السير والجلوس عن الوقوف ، إنما بالطبع لا تتطلب كل حالات التفكير البطيء هذا الشكل من التركيز والعمليات الحسابية المجهدة، إذ يتوقف حجم المجهود على مدى صعوبة حل اللغز.
>> النمط الثاني مشغول و مستنزف
– يعتبر كلٌّ من التحكم في النفس والمجهود المعرفي عمليتين عقليتين ، والناس الذين يواجهون تحديًا حين يتعين عليهمإنجاز مهمة معرفية في الوقت الذي يلاحقهم فيه أحدالإغواءات تتزايد احتمالات استجابتهم لهذا الإغواء
– تخيلأنك مطالب بالاحتفاظ في ذاكرتك بقائمة تتكون من سبعةأرقام لمدة دقيقة أو دقيقتين، وأنك أُخبرت بأن تلك المهمة هي أولى أولوياتك، وفي أثناء تركيزك لكل انتباهك علىتلك الأرقام يُقدَّم لك طبقا حلوى تختار من بينهما (كيك الشيكولاتة الدسم وسلطة الفواكه الخفيفة)
– تشير الأدلة إلى أنه من المرجح أن تختار كيك الشيكولاتة حين يكون عقلك مزدحمًا بتلك الأرقام، ويرجع ذلك إلى أن نمط التفكير الأول له تأثير أكبر على السلوك حين يكون النمط الثاني منشغلاً، كما أنه يميل إلى اختيار الحلوى التي تحتوي على نسبة سكريات أكبر
– من المحتمل أيضًا أن يتخذ الأشخاص المنشغلين معرفيًا قرارات أنانية، ويستخدموا لغةً تميز بين الجنسين ، ويصدرون أحكامًا سطحية في المواقف الاجتماعية، وذلك لأن حفظ الأرقام واسترجاعها يجعل النمط الثاني يفقد السيطرة على السلوك ، ولكن الانشغال المعرفي ليس السبب الوحيد في ضعف السيطرة على السلوك بالطبع ، فــ الاستيقاظ ليومين متواصلين، على سبيل المثال ، له نفس التأثير
– فضلاً عن ذلك، يعاني أصحاب الشخصيات النهارية من ضعف القدرة على التحكم في النفس ليلاً و العكس صحيح بالنسبة إلى أصحاب الشخصيات الليلية ، كما أن التركيز الشديد على جودة مستوى أداء المرء لمهمة ما يخل بأدائها بسبب تعبئة الذاكرة قصيرة الأمد بـ أفكار مزعجة بلا فائدة
– والنتيجة واضحة: يتطلب التحكم في النفس انتباهًا ومجهودًا، وبذلك فإن السيطرة على الأفكار والسلوكيات من المهام التي يؤديها النمط الثاني
———————————–
– حين تستمع إلى كلمتي ”موز“ و”غثيان“، يفترض عقلك بصورة آلية وجود علاقة تتابع زمني وعلاقة سببية بين هاتين الكلمتين، مما يجعلك تصوغ سيناريو مبدئيًا فكرتهأن الموز يسبب الغثيان
– ونتيجة لذلك، سـ تشعر بنفور مؤقت من الموز ( و لكنه شعور عابر لا يستدعي القلق )
– تغيرت حالة ذاكرتك بطرق أخرى؛ فلديك الاستعداد الآن للتعرف على أشياء ومفاهيم مرتبطة بــ”الغثيان“، كـ الرائحة الكريهة والاشمئزاز، والاستجابة إليها، كما أن لديك الاستعداد لربط بعض الكلمات والعبارات ب”الموز“ كــ اللون الأصفر والفاكهة أو ربما التفاح والكريز
– فضلاً عن ذلك،سيلاحظ نمطك الأول أن وضع الكلمتين متجاورتين غير مألوف، فمن المحتمل أنك لم تصادفهما بهذا الشكل من قبل، وبالتالي فقد تلقيت مفاجأةً بسيطةً
– حدثت هذه المجموعة المعقدة من ردود الأفعال بسرعة و تلقائية ودون مجهود لم تخطط لها ولم تستطع إيقافها،فقد كانت إحدى عمليات النمط الأول ووقعت تلك الأحداث لأنك رأيت أن الكلمتين تصادفتا من خلال عملية يطلق عليها اسم تنشيط تداعي المعاني، بمعنى أن الأفكار التي تطرأ على ذهنك تستحث ظهور أفكار أخرى عديدة عبر شلال منتشر ومتدفق من الأنشطة العقلية
– والسمة الرئيسة لتلك المجموعة المعقدة من أحداث العقل هي الترابط المنطقي بينها. فكل عنصر فيها متصل بغيره من العناصر وكل منهم يعزز ويدعم الآخر. تستثير الكلمة الذكريات التي تحفز الانفعالات والتي تحفز بدورها تعبيرات الوجه وغيرها من ردود الأفعال كالتوتر العام والميل إلى تجنب الأمر
– وتعزز ردود الأفعال السابقة المشاعر المرتبطة بها، كما أن المشاعر تعزز الأفكار المتوافقة معها. يحدث كل ذلك بسرعة وفي الوقت نفسه، فينتج عنه نمط من ردود الأفعال المعرفية والعاطفية والجسدية، ويعزز نفسه بنفسه ويتسم بالتكامل والتنوع ، يطلق على هذا النمط اسم نمط الترابط والتماسك
– لقد استطعت في ثانية واحدة تقريبًا إنجاز عمل تلقائي و لا واع مميز، فبدءًا من حدث لم يكن متوقعًا على الإطلاق، استطاع نمطك الأول فهم الموقف قدر الإمكان، فقد كانت لديه كلمتان بسيطتان متجاورتان بشكل غير مألوف من خلال قصة ربطت بينهما سببيًا، فقيم من خلالها الخطر المحتمل (سواء أكان بسيطًا أم محدود المدى)، وأنشأ إطارًا للتطورات المستقبلية من خلال استعدادك لأحداث أصبحت للتو أكثر احتمالاً، وقد أنشأ هذا النمط أيضًا إطارًا للحدث الجاري من خلال تقييم عنصر المفاجأة فيه. وقد انتهى بك المطاف بمعلومات حول الماضي واستعداد للمستقبل بقدر الإمكان
– ومن السمات غير المألوفة لما حدث أن نمطك الأول تعامل مع مجرد الربط بين الكلمتين على أنه أمر واقع – وقد استجاب جسمك من خلال نسخة مخففة من نفس رد فعلك في حالة تعرضك لهذا الموقف بالفعل – كما أن استجابتك الانفعالية ونفورك الجسدي كانا جزءًا من تفسير الحدث، وقد أكد أحد الباحثين المعروفين في السنوات الأخيرة أن المعرفة مجسدة، لأن الإنسان لا يفكر بعقله فحسب، وإنما بجسده أيضًا
————————————-
>> قواعد ومفاجأت
– الوظيفة الأساسية للنمط الأول هي الحفاظ على نموذج العالم الخاص بك بمكوناته العادية وتحديثه – ينشأ هذا النموذج من خلال وصلات تربط بين الأفكار الخاصة بالظروف والأحداث والأفعال والنتائج التي تحدث معًا بقدر من الانتظام سواء في الوقت نفسه أو خلال فترة زمنية قصيرة
– وعندما تتشكل تلك الروابط وتقوى، يظهر نمط الأفكار المترابطة ليمثل هيكل الأحداث في حياتك ، ويحدد نظرتك إلى الحاضر، وتوقعاتك حول المستقبل
– يعتبر الاستعداد للمفاجأة عنصرًا رئيسًا من عناصر الحياة العقلية، والمفاجأة في حد ذاتها أكثر المؤشرات الحساسة التي تشير إلى مدى فهمنا لعالمنا وما نتوقعه منه
– وهناك نوعان رئيسيان مختلفان من المفاجآت، فبعض التوقعات قائمة بالفعل وتدخل في نطاق الوعي، كــ انتظار كل حدث معين لأنك تعرف أنه سيحدث، وحين يقترب ميعاد الحدث، قد تتوقع سماع طرق على الباب حين يعود ابنك من المدرسة، وحين يُفتح الباب فإنك تتوقع سماع صوت مألوف بالنسبة إليك، مما يجعلك تُفاجأ إذا كان هناك حدث متوقع بشدة ولكنه لم يحدث ، في حين أن هناك مجموعة كبيرة من الأحداث التي لا تتوقعها؛ أي أنك لا تنتظرها ، و لكنك لا تُفاجأ حين تحدث – تلك هي الأحداث التي تعتبر طبيعية في المواقف التي تظهر فيها، رغم أنها ليست مرجحة بصورة كافية كي تتوقعها في نطاق الوعي.
————————————
>> كيف نصدر الأحكام .. ؟
– لا حدود لعدد الأسئلة التي يمكنك الإجابة عنها، سواء أكانت تلك الأسئلة موجهة إليك من طرف آخر أم توجهها أنت إلى نفسك
– ولا يوجد حد أيضًا لعدد الصفات التي يمكنك تقييمها، فــ باستطاعتك عد الحروف المدونة على هذه الورقة، والمقارنة بين ارتفاع نافذة منزلك والنافذة التي تواجهها، وتقييم الآفاق السياسية لأحد الزعماء السياسيين ، وتصنيفها تدريجيًا بدءًا بالواعدة ووصولاً إلى الكارثية ، توجه تلك الأسئلة إلى النمط الثاني الذي يركز على البحث عن الإجابات في الذاكرة
– أما النمط الأول، فيعمل بصورة مختلفة، فهو يراقب باستمرار ما يحدث داخل وخارج العقل، ويقيّم باستمرار مختلف جوانب الموقف دون تركيز على جانب محدد وبمجهود بسيط أو دون جهد يُذكر. وتلعب تلك التقييمات الأساسية دورًا مهمًا فـي إصدار الأحكام البديهية لأنه من السهل استبدالها بأسئلة أكثر صعوبة. تلك هي الفكرة الأساسية لمنهج الاستدلال والتحيز
– وهناك سمتان أخريان للنمط الأول أيضًا تدعمان استبدال حكم بآخر واحدة من هاتين السمتين هي القدرة على ترجمة القيم من خلال أبعاد، وهذا هو ما تفعله حين تجيب عن السؤال التالي الذي يعتقد معظم الناس أنه سهل: ”هل يوازي طول سامي ذكاءه، وكم سوف يصبح طوله .. ؟“
– وأخيرًا، هناك أسلوب عقلي استهدافي. وهو يشير إلى أن رغبة النمط الثاني في الإجابة عن سؤال محدد أو تقييم سمة محددة من سمات الموقف تؤدي تلقائيًا إلى عمليات حسابية أخرى من ضمنها التقييمات الأساسية
————————————-
>> الأحكام السببية والإحصائية ..
– أظهرت إحدى الدراسات التي أجريت على مقاطعات”الولايات المتحدة“ البالغ عددها 3141 للتحقق من حجم انتشار مرض سرطان الكلى نمطًا لافتًا للنظر، فأكثر المقاطعات انخفاضًا في حالات الإصابة ريفية، وتعدادها السكاني منخفض، وتقع في الولايات التي يحكمها الحزب الجمهوري في الغرب الأوسط والجنوب والشرق. فما الذي نفهمه من كل ذلك .. ؟
– كان عقلك نشيطًا للغاية خلال الثواني القليلة الماضية.وتلك العملية تابعة في الأساس للنمط الثاني، فقد عمدت إلى البحث في ذاكرتك و كونت إحدى الفرضيات، وقد تضمن الأمر قدرًا من المجهود والتركيز قابلاً للقياس ، ولكن النمط الأول لم يكن عاطلاً في تلك الأثناء، إذ تعتمد عملية النمط الثاني على الحقائق والاقتراحات التي استرجعت من الذاكرة الارتباطية
– ومن المرجح أنك رفضت فكرة أن سياسات الحزب الجمهوري توفر الحماية من مرض سرطان الكلى ، ومن المحتمل أنه انتهى بك المطاف مركزًا على حقيقة أن المقاطعات التي تنخفض فيها نسبة الإصابة بهذا المرض معظمها ريفية ، ومن السهل والمغري استنتاج أن انخفاض معدلات إصابة سكان المقاطعات الريفية بالسرطان سببها المباشر الحياة النظيفة التي يتميز بها الريف، حيث إنه لا يعاني من تلوث الهواء أو الماء ويتناول أهله الطعام دون إضافة مواد حافظة له ، ولعل هذا الاستنتاج منطقي للغاية
– والآن، لننتقل إلى المقاطعات التي ترتفع فيها نسب الإصابة، فــ معظمها ريفي، وعدد سكانها منخفض ، كما أنها تقع في الولايات التي يحكمها الحزب الجمهوري فيالغرب الأوسط والجنوب والغرب ، تلك هي المفارقة .. !
– فمن السهل استنتاج أن ارتفاع معدلات إصابة سكان تلك المقاطعات بالسرطان قد يكون سببه المباشر حياة الأرياف الفقيرة، حيث تغيب الرعاية الصحية السليمة مع اعتماد السكان على الأغذية الدسمة وازدياد معدلات المدخنين بينهم ، هناك سبب ما لارتفاع أو انخفاض نسب الإصابة بالمرض طبعًا، ولكن نمط الحياة الريفية ليس مسؤولاً عن ارتفاع أو انخفاض تلك النسب
– العامل الرئيس هنا ليس أن تلك المقاطعات ريفية أو جمهورية، بل إن المقاطعات الريفية تعدادها السكاني منخفض
– والدرس المفيد هنا لا علاقة له بعلم الأمراض، بل إنه يرتبط بالعلاقة الصعبة بين عقولنا والإحصاءات
– يتسم نمط التفكير الأول بأنه شديد المهارة في شكل واحد من أشكال التفكير، فهو يربط سببيًا بين الأحداث بتلقائية ودون أدنى مجهود، حتى إذا كانت لا توجد صلة حقيقية بينها في بعض الأحيان، فــ عندما استمعت إلى خبر تلك المقاطعات التي ترتفع فيها نسب الإصابة، افترضت على الفور أنها تختلف عن غيرها لسبب ما، وأنه لا بد من وجود سبب يبرر هذا الاختلاف
– لذلك، فنمط التفكير الأول لا يجيد التعامل مع الحقائق ”الإحصائية البحتة“ التي تغير احتمالات النتائج ولكنها لا تتسبب في حدوثها
– تختلف مشكلة الإصابة بسرطان الكلى من مقاطعة إلىأخرى اختلافًا منهجيًا، فالتفسيرات الإحصائية المطروحةعبارة عن نتائج مبالغ فيها (فيما يتعلق بارتفاع وانخفاضنسب الإصابة) وتزداد نسبة ظهورها في العينات الصغيرة عن العينات الكبيرة، وهذا التفسير ليس سببيًا، فانخفاض عدد سكان مقاطعة ما لا يتسبب في الإصابة بمرضالسرطان ولا يحول دونها، بل أنه يتسبَّب فقط في إظهارنسب الإصابة على أنها مرتفعة للغاية أو منخفضة للغاية عن النسب الموجودة في المقاطعات ذات التعداداتالسكانية الأكبر
– والحقيقة الخفية هي أنه لا يوجد تفسير لتفاوت تلك النسب، فــ معدلات الإصابة لا ترتفع أو تنخفض عن الحد الطبيعي في المقاطعات ذات التعداد السكاني المنخفض، ولكنها تبدو كذلك فحسب في عام محدد بسبب الخطأ في مسح العينات
– لذلك، فإذا أُعيد التحليل في العام الذي يليه، فستلاحظ نفس النمط العام من النتائج المبالغ فيها في العينات الصغيرة، إلا أن المقاطعات التي ارتفعت فيها نسب الإصابة في العام الماضي لن يظهر فيها ارتفاع في نسب الإصابة بالضرورة هذا العام. وفي تلك الحالة ، لن يُنظر إلى الاختلافات في نسب الإصابة التي ظهرت بين المقاطعات ذات التعداد السكاني المرتفع والمقاطعات ذات التعداد المنخفض على أنها حقيقية، أنها تعتبر وفقًا493 – ( السنة العشرون – العدد التاسع عشر – أكتوبر 2012 )
– من الوظائف الأساسية للنمط الثاني مراقبة الأفكار والأفعال التي ”يقترحها“ النمط الأول والتحكم فيها، مما يسمح لبعضها بالظهور بصورة مباشرة من خلال السلوك ويقمع بعضها أو يعمل على تعديلها
>> على سبيل المثال: استمع إلى اللغز التالي دون أن تحاول حله، بل استمع إلى بديهتك
– تبلغ تكلفة المضرب الرياضي والكرة 1,10 دولار ويزيد سعر المضرب عن الكرة بمقدار دولار ، فكم يبلغ سعر الكرة .. ؟
– بعد أن استمعت إلى اللغز، ستجد أن الرقم 10 قد طرأ على ذهنك، أي أن تكلفة الكرة 10 سنتات، فالسمة المميزة لهذا اللغز السهل هي أن إجابته بديهية وجذابة ولكنها خاطئة
– و لاكتشاف الخطأ، عليك بإجراء عملية حسابية لاحتساب الفرق
– فإذا كانت تكلفة الكرة 10 سنتات ، فــ ستبلغ التكلفة الكلية 1,20 دولار ( 10 سنتات للكرة و 1,10 للمضرب)؛ أي أن التكلفة الكلية لن تصبح 1,10 دولار
– لذلك، فالإجابة الصحيحة هي أن تكلفة الكرة 5 سنتات
– من المفترض أن الإجابة البديهية قد طرأت أيضًا على ذهن هؤلاء الذين نجحوا في التوصل إلى الإجابة الصحيحة في النهاية، وقد توصلوا إليها حين استطاعوا بطريقة ما مقاومة بديهتهم
– والآن، حان وقت الإجابة عن هذا السؤال: إلى أي مدى يراقب النمط الثاني اقتراحات النمط الأول .. ؟ من المعلوم أن هؤلاء الذين أجابوا بأن تكلفة الكرة 10 سنتات لم يتحققوا من صحة إجاباتهم، وبالتالي اعتمد النمط الثاني الإجابة البديهية التي كان ليرفضها إذا بذل صاحب الحل مجهودًا بسيطًا
– ومن المعلوم أيضًا أن هؤلاء الذين أجابوا اعتمادًا على بديهتهم لم يدركوا إشارة اجتماعية واضحة؛ فقد كان يجب عليهم أن يتساءلوا لِمَ قد يرغب أي شخص في وضع سؤال بمثل تلك السذاجة داخل استقصاء
– تقصيرهم في التحقق من الإجابة ملحوظ لأن تكلفة التحقق بسيطة للغاية، فثوانٍ معدودة من التفكير كان من شأنها أن تجنبهم مثل هذا الخطأ المحرج، لكن قد تبدو مسألة التفكير صعبة نسبيًا مع توتر العضلات والتركيز الشديد في،« ابذل مجهودًا أقل » أثناء الإجابة
– ويبدو أن هؤلاء الذين قالوا إن تكلفة الكرة 10 سنتات من الأتباع المتعصبين لقانون أما هؤلاء الذين تجنبوا تلك الإجابة، فلديهم عقول أكثر نشاطًا
————————————–
>> خداع العقول
– في كتابه ”البجعة السوداء“، تعرض ”نسيم طالب“ لنظرية القصص الخادعة كي يشرح الكيفية التي تشكل بها قصص الماضي المزيفة نظرتنا إلى العالم وتوقعاتنا حول المستقبل لا بد أن تظهر تلك القصص في أثناء محاولاتنا المستمرة لفهم العالم
– وتتسم تلك الروايات التفسيرية التي نشعر بأنها مقنعة بكونها بسيطة وملموسة أكثر منها مجردة، كما أنها تسند دورًا كبيرًا إلى الموهبة ومستوى الذكاء والنوايا وليس الحظ، وتركز على القليل من الأحداث اللافتة التي وقعت وليس على أحداث لم تحدث لا حصر لها
– ووفقًال”طالب“، أي حدث بارز من الممكن أن يصبح نواة لــ قصة تفسيرية فهو يشير إلى أننا نخدع أنفسنا حين نحيك قصصًا مهلهلة حول الماضي ثم نصدقها تقدم تلك القصص المحبوكة تفسيرات بسيطة ومقنعة حول أفعال البشر ونواياهم فنحن دائمًا على استعداد لتفسير السلوكيات كدليل على ميولنا العامة وصفاتنا، وهي أسباب يمكننا بسهولة مضاهاتها بالنتائج
– ويساهم الأثر الذي تخلقه الجاذبية الشخصية التي تطغى على ابطال أو أحداث تلك القصص في إقناعنا بها ؛ لأنها تجعلنا نميل إلى مقارنة وجهات نظرنا حول جميع سمات شخص ما بحكمنا على سمة محددة بارزة من سماته. وبالتالي، فإذا اعتقدنا أن أحد لاعبي كرة القدم وسيم ورياضي ، فمن المحتمل أن نعتبره أيضًا أفضل لاعب ، ولتلك الجاذبية أيضًا أثر سلبي، فإذا اعتقدنا أن أحد اللاعبين دميم، فننظر إلى قدراته الرياضية على أنها متدنية ، تساعد الجاذبية الشخصية على الحفاظ على بساطة ومنطقية القصص التفسيرية من خلال المبالغة في اتساق التقييمات: فالطيبون في تلك القصص صالحون على طول الخط، أما الأشرار فــ طالحون على طول الخط
– بالتالي ، سـ نشعر بالصدمة إذا سمعنا أن شخصًا شريرًا يحب الأطفال ويحب الحيوانات مهما بلغ عدد مرات استماعنا إلى تلك المعلومة، لأن أي لمسة حنان يظهرها ســ تخالف توقعاتنا التي كوناها عنه تأثرًا بـ مدى جاذبيته، كما أن عدم الاتساق في تقييمه يشوش أفكارنا ومشاعرنا
————————————
>> العواقب الاجتماعية للإدراك المتأخر
– يعتبر العقل الذي يختلق الروايات حول الماضي عضوًا مفكرًا ، فحين يقع حدث غير متوقع.